سورة المجادلة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}
فيه مسألتان: الأولى قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة. وقيل بنت حكيم. وقيل أسمها جميلة. وخولة أصح، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟ وقالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شي، إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} خرجه ابن ماجه في السنن. والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها}.
وقال الماوردي: هي خولة بنت ثعلبة.
وقيل: بنت خويلد. وليس هذا بمختلف، لان أحدهما أبوها والآخر جدها فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت.
وقال الثعلبي قال ابن عباس: هي خولة بنت خويلد الخزرجية، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها- قال عروة: وكان امرأ به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لها: «حرمت عليه» فقالت: والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: «حرمت عليه» فما زالت تراجعه ومراجعها حتى نزلت عليه الآية.
وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أوحى إلي في هذا شي» فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟! فقال: «هو ما قلت لك» فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله.
فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} الآية.
وروى الدارقطني من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدثه قال: إن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: ظاهر حين كبرت سني ورق عظمي. فأنزل الله تعالى آية الظهار، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأوس: «أعتق رقبة» قال: مالي بذلك يدان. قال: «فصم شهرين متتابعين» قال: أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكل بصري. قال: «فأطعم ستين مسكينا» قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له والله غفور رحيم. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} قال: فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينا، وفي الترمذي وسنن ابن ماجة: أن سلمة ابن صخر البياضي ظاهر من امرأته، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «أعتق رقبة» قال: فضربت صفحة عنقي بيدي. فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: «فصم شهرين» فقلت: يا رسول الله! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام. قال: «فأطعم ستين مسكينا» الحديث.
وذكر ابن العربي في أحكامه: روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألته عن ذلك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد حرمت عليه فقالت: أشكو إلى الله حاجتي. ثم عادت فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حرمت عليه فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن، ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي، فذهبت أن تعيد، فقالت عائشة: اسكتي فإنه قد نزل الوحي. فلما نزل القرآن قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزوجها: أعتق رقبة قال: لا أجد. قال: صم شهرين متتابعين قال: إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري. قال: فأطعم ستين مسكينا قال: فأعني. فأعانه بشيء». قال أبو جعفر النحاس: أهل التفسير على أنها خولة وزوجها أوس بن الصامت، واختلفوا في نسبها، قال بعضهم: هي أنصارية وهي بنت ثعلبة، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وقيل: هي بنت خويلد، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقال بعضهم: هي أمة كانت لعبد الله بن أبي، وهي التي أنزل الله فيها {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} لأنه كان يكرهها على الزنى.
وقيل: هي بنت حكيم. قال النحاس: وهذا ليس بمتناقض، يجوز أن تنسب مرة إلى أبيها، ومرة إلى أمها، ومرة إلى جدها، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبد الله بن أبي فقيل لها أنصارية بالولاء، لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين.
الثانية: قرئ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} بالإدغام و{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} بالإظهار. والأصل في السماع إدراك المسموعات، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن.
وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسموع. قال الحاكم أبو عبد الله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الاذن، كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لادراك الصوت. والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. وشكي واشتكى بمعنى واحد. وقرئ: {تحاورك} أي تراجعك الكلام و{تُجادِلُكَ} أي تسائلك.


{الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}
فيه ثلاث وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ} قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف {يظاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يظاهرون} بحذف الالف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء. وقرأ أبو العالية وعاصم وزر ابن حبيش {يظاهرون} بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء. وقد تقدم هذا في الأحزاب.
وفي قراءة أبى {يتظاهرون} وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة. وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر، لان ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنى بالظهر عن الركوب. ويقال: نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب. ومعنى أنت علي كظهر أمي: أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك.
الثانية: حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. واختلف فيه عن الشافعي رضي الله عنه، فروي عنه نحو قول مالك، لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم.
وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها. وهو مذهب قتادة والشعبي. والأول قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري.
الثالثة: أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. فإن قال: أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت علي مثل أمي، فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا. ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكناية الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت.
الرابعة: ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية، فالصريح أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر، مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه.
وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهارا. وهذا ضعيف منه، لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لابي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه. ومتى شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء، وعند الامام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا. والكناية أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة. وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فان معنى اللفظ فيه موجود- واللفظ بمعناه- ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم، قاله ابن العربي.
الخامسة: إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان مظاهرا، خلافا لابي حنيفة في قوله: إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا. وهذا لا يصح، لان النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفية وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر، وقد قال الامام الشافعي في قول: إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده. وهذا فاسد، لان كل عضو منها محرم، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر، ولان المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى.
السادسة: إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا، فمنهم من قال: يكون ظهارا. ومنهم من قال: يكون طلاقا.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئا. قال ابن العربي: وهذا فاسد، لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر، والأسماء بمعانيها عندنا، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم. قلت: الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك. وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن. ومنهم من لا يجعله شيئا. ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقا. وهو عند مالك إذا قال: كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه. وقد روي عنه أيضا: أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء، كما قال الكوفي والشافعي.
وقال الأوزاعي: لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها. والله أعلم.
السابعة: إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا، لان قوله: أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لاحد الاحتمالين يقضي به فيه.
الثامنة: الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: وهي مسألة عسيرة جدا علينا، لان مالكا يقول: إذا قال لامته أنت علي حرام لا يلزم. فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته. ولكن تدخل الامة في عموم قوله: {مِنْ نِسائِهِمْ} لأنه أراد من محللاتهم. والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الامة، أصله الحلف بالله تعالى.
التاسعة: ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك. ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: {مِنْ نِسائِهِمْ} وهذه ليست من نسائه. وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة براءة عند قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ} الآية.
العاشرة: الذمي لا يلزم ظهاره. وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: يصح ظهار الذمي، ودليلنا قوله تعالى: {مِنْكُمْ} يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا استدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو استدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال.
الحادية عشرة قوله تعالى: {مِنْكُمْ} يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه. وحكاه الثعلبي عن مالك، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام.
الثانية عشرة: وقال مالك رضي الله عنه: ليس على النساء تظاهر، وإنما قال الله تعالى: {والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ} ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجال. قال ابن العربي: هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد. وهو صحيح معنى، لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء وهذا إجماع. قال أبو عمر: ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء.
وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة.
وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده.
وقال الشافعي: لإظهار للمرأة من الرجل.
وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها، أنت علي كظهر أمي فلانة فهي يمين تكفرها. وكذلك قال إسحاق، قال: لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها.
وقال الزهري: أرى أن تكفر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها، رواه عنه معمر. وابن جريج عن عطاء قال: حرمت ما أحل الله، عليها كفارة يمين. وهو قول أبي يوسف.
وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها.
الثالثة عشرة: من به لمم وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره، لما روي في الحديث: أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته.
الرابعة عشرة: من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه.
وفي بعض طرق هذا الحديث، قال يوسف بن عبد الله بن سلام: حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت، قالت: كان بيني وبينه شي، فقال: أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه. فقولها: كان بيني وبينه شي، دليل على منازعة أحرجته فظاهر منها. والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران. وهى: الخامسة عشرة: يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظم كلامه، لقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} على ما تقدم في النساء بيانه. والله أعلم.
السادسة عشرة: ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، خلافا للشافعي في أحد قوليه، لان قوله: أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه، فإن وطئها قبل أن يكفر، وهي: السابعة عشرة: أستغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة.
وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان. روى سعيد عن قتادة، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة ابن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر: إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان. ومعمر عن قتادة قال: قال قبيصة بن ذؤيب: عليه كفارتان.
وروى جماعة من الأئمة منهم ابن ماجة والنسائي عن ابن عباس: أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فقال: «ما حملك على ذلك» فقال: يا رسول الله! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها. فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمره ألا يقربها حتى يكفر.
وروى ابن ماجه والدارقطني عن سليمان بن يسار عن سلمة ابن صخر أنه ظاهر في زمان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا.
الثامنة عشرة: إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطئ إحداهن وأجزأته كفارة واحدة.
وقال الشافعي: تلزمه أربع كفارات. وليس في الآية دليل على شيء من ذلك، لان لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى. وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة. وهذا إجماع.
التاسعة عشرة: فإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وقد قيل: لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر. والأول هو المذهب. الموفية عشرين: وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار، لان المبتوتة لا يلحقها طلاق.
الحادية والعشرون: قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها.
وقال المزني: لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية، وهذا ليس بشيء، لان أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا. والله أعلم.
الثانية والعشرون: قوله تعالى: {ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ} أي ما نساؤهم بأمهاتهم. وقراءة العامة {أُمَّهاتِهِمْ} بخفض التاء على لغة أهل الحجاز، كقوله تعالى: {ما هذا بَشَراً}. وقرأ أبو معمر والسلمى وغيرهما {أمهاتهم} بالرفع على لغة تميم. قال الفراء: أهل نجد وبنو تميم يقولون {ما هذا بشر}، و{ما هن أمهاتهم} بالرفع. {إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} أي ما أمهاتهم إلا الوالدات.
وفي المثل: ولدك من دمي عقبيك. وقد تقدم القول في اللائي في الأحزاب.
الثالثة والعشرون: قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} أي فظيعا من القول لا يعرف في الشرع. والزور الكذب {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر.


{وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)}
فيه اثنتا عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} هذا ابتداء والخبر {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة.
وقيل: أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عني الله بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} فمن قال هذا القول حرم عليه وطئ امرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار، لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة: الأول- أنه العزم على الوطي، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: فإن عزم على وطئها كان عودا، وإن لم يعزم لم يكن عودا.
الثاني- العزم على الإمساك بعد التظاهر منها، قاله مالك.
الثالث- العزم عليهما. وهو قول مالك في موطئة، قال مالك في قوله الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا} قال: سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك: وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع- أنه الوطي نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا.
الخامس- وقال الامام الشافعي رضي الله عنه: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، لأنه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه. وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة.
السادس: أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. ومعنى العود عند القائلين بهذا: أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد.
السابع- هو تكرير الظهار بلفظه. وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس، قالوا: إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وإن لم يكرر فليس بعود. ويسند ذلك إلى بكير بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا، وهو قول الفراء.
وقال أبو العالية: وظاهر الآية يشهد له، لأنه قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا} أي إلى قول ما قالوا.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا} هو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي. فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي: فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى ينقضه، لان الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة، وهذا لا يعقل، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطئ في صوم أو غيره. قلت: قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل منه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم، وأما قول الشافعي: بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات: الأول- أنه قال: {ثُمَّ} وهذا بظاهره يقتضي التراخي.
الثاني- أن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ} يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه.
الثالث- أن الطلاق الرجعى لا ينافي البقاء على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالايلاء. فإن قيل: فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الام بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا: إذا عزم على خلاف ما قال ورآها خلاف الام كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول: أن العزم قول نفسي، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار، ثم عاد لما قال وهو التحليل، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد، لان العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله، لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. وهذا تفسير بالغ في فنه.
الثانية: قال بعض أهل التأويل: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} إلى ما كانوا عليه من الجماع {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} لما قالوا، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله: {لِما قالُوا} متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم، قال الأخفش.
وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.
وقيل: المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطي.
وقال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يتعاقبان، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} وقال: {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} وقال: {وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ}.
الثالثة: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه إعتاق رقبة، يقال: حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكافرة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها.
الرابعة: فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة.
وقال الشافعي يجزئ، لان نصف العبدين في معنى العبد الواحد، ولان الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزي كالاطعام، ودليلنا قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس برقبة، وليس ذلك مما يدخله التلفيق، لان العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها، أصله إذا اشترك رجلان في أضحيتين، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والإطعام وغيره لا يتجزى في الكفارة عندنا.
الخامسة: قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطي قبل التكفير، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير. وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره: أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شيء أصلا، لان الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها.
وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة. وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام.
وقال أبو حنيفة: إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطي من القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقاله الحسن وسفيان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.
وقيل: وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس، وهو قول مالك واحد قولي الشافعي. وقد تقدم.
السادسة: قوله تعالى: {ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تؤمرون به {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من التكفير وغيره.
السابعة: من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك.
وقال مالك: إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة، وهى: الثامنة: فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل: يبني، قاله ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وابن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبه.
وقال مالك:
إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي.
التاسعة: إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، لقوله: {مُتَتابِعَيْنِ}. ويبني في قول الحسن البصري، لأنه عذر وقياسا على رمضان، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع.
العاشرة: إذا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا، بطل التتابع في قول الشافعي، وليلا فلا يبطل، لأنه ليس محلا للصوم.
وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة، لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال: صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال: صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها، لان هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم.
الحادية عشرة: ومن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطئ امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه.
الثانية عشرة: ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق. ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى. وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه. ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك.
الثالثة عشرة: ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه. وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين. وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين. وقد قيل: إن ذلك يجزيه. ولو ظاهر من امرأتين ل فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطئ واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى. ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الأخرى. ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب، وصام شهرين، لم يجزه العتق ولا الصيام، لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين، وإن لم يقدر فرق بخلاف العتق والصيام، لان صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق. فصل وفية ست مسائل:
الأولى: ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان يمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن أطعم مدا بمد هشام، وهو مدان إلا ثلثا، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجزأه. قال أبو عمر بن عبد البر: وأفضل ذلك مدان بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار {مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ} فواجب قصد الشبع. قال ابن العربي: وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم: مد بمد هشام وهو الشبع ها هنا، لان الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط.
وقال في رواية أشهب: مدان بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قيل له: ألم تكن قلت مد هشام؟ قال: بلى، مدان بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلي». وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا.
قلت: وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك: أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد، أصله كفارة الإفطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى: {فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} وإطلاق الإطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب: قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال نعم! الشبع عندنا مد بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشبع عندكم أكثر، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن.
وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي: وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه: {فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الاخبار كثيرا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحو رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسوله بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب: الشبع عندنا بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشبع عندكم أكثر لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه. والله أعلم.
الثانية: ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.
الثالثة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: من غريب الامر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. واحتج بقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يفرق بين الرشيد والسفيه، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشيا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام.
الرابعة: وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما.
الخامسة: قوله تعالى: {ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة {لِتُؤْمِنُوا} أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد أستدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى، لما ذكرها وأوجبها قال: {ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل: معنى قوله: {ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور.
قيل له: قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا، إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله، لأنها حدود تحفظونها، وطاعات تؤدونها والطاعة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمان. وبالله التوفيق.
السادسة: قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار، وطاعته الكفارة. {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5